الأحد، 31 يناير 2021

ثلاث أّذان

 



     أذنان مثبتتان إلي جانبي رأسي، وآخرى في يدي. واحدة ولدت بها، وواحدة فقدتها منذ لحظات، وواحدة خُلِقت لي حالًا!

 

     أمسكت مشعلي بعدما قبضوا عليه وساقوه إلي حيث لاأعرف، وهرب كل تلاميذه -بما فيهم الشجاع الذي هاجمني- وبحثت في الحشائش وتحت الأشجار، لأعرف هل كان هذا حلمًا أم حقيقة.. حتي وجدتها.. أذني المثقوبة.. لأني عبد.

 

     أسمع عنه منذ مدة، كلامًا كله حقد وتآمر في اجتماعات منزل سيدي، تخيلته قويًا ذو بطش ليهابونه كل هذا الوقت، ويخافونه بكل هذا القدر.. لكن حين رأيته كان بسيطًا جدًا، بساطة دفعتني لأتشجع وأتقدم وأمسكه.. وصديقه معنا يقبله ليسلمه.. أحتقر الخائنين، لكنه يقدم خدمة لسيدي -الذي أكرهه- وجماعتنا.

 

     الظلام حالك، والخائن يتقدمنا، الكل خائف ومرتعش، وتلاميذه نيام. كنا نتوقع اشتباك.. لكنّ أحدًا لم يشتبك إلا واحد استيقظ مترنحًا. صرخ فيه أن يرد سيفه، ومعه كنت أصرخ من الآلم.. نارًا أفجرت في جمجمتي، وحمم تفور بالدماء من يمينها.. أُمسِك رأسي، فلا أجد أذني.

 

     لاأفهم!.. حقًا لاأفهم أي شيء!.. أنا رجل ذو ثلاث أذان وعقل معطل وقلب ملتهب. من هو هذا ومالذي يحدث!.. كيف لمعتقل ألا يحاول الهرب، بل ويطلب من أصدقاءه أن لايدافعوا عنه، وأن يُعطوا الفرصة ليمضوا! يعاتب بحب خائنه. وتلميذه هذا الذي خالف أوامره.. كيف لم يشكره؟ أو -علي النقيض- يتنصل منه؟ بل بكل هدوء يلقنه درسًا عن كأس يجب أن يشربها، وجيوش بأمكانه أن يجلبها.. لكنه ماضٍ وفق خطه. أي خطة؟ قال هذا وهو ينحني ليحضن رأسي.. يوقف شلال الآلم، ويصنع لي أذنًا جديدة!

 

     صخب واضطراب كبير، لكنّ لقاء أعين ولمسة دافئة في ليلة باردة خصني بها. معها الزمن توقف، ولمّا عاد كنت شخصًا أخر. كأن التاريخ انقسم – وهو ماسمعت أنه يحدث مع الناس فعلًا- قبل وبعد لقاء هذا الرجل. سمعت أنه سبق أن خلق عينًا لمولود أعمي.. وشفي كثيرين، وأنه يهتم بالمنبوذين.. كل هذا كان من عريضة اتهاماته!.. أما أن يهتم بعبد يهينه أسياده ويعرضونه للخطر، والعبد هذا من أعداءه المتقدمين لإذائه.. يهبه معجزة بلا رجاء ولاإيمان، في موقف عصيب علي الكل، والأصعب عليه وحده، ويدي التي أمتدت لتقبض بقسوة، فحظى صاحبها بأرق لمسة من يده.. كل هذا لايجعل منه إنسانًا عاديًا، بل -كما يخشون أن يعترفوا، فيتهمونه بالزعم- هو الحب الذي "هو".

 


الاثنين، 15 يونيو 2020

أميرة الكمامة




هل يصدق أحد أن أيام جائحة فيرس الكورونا هي أسعد أيام حياتي؟ وإني أتمني أن لاتنتهي أبدًا.. خاصة بعد أشتداد الأزمة ووجوب أرتداء الكمامة الطبية بالقانون.

منذ طفولتي لم أشعر أبدًا إني فتاة طبيعية جميلة.. فمن أول أيامي في المدرسة بدأت
ألاحظ أن فيّ شيئًا مثير للسخرية لم أكن ألحظه أبدًا، ولا أي من افراد أسرتي سبق أن علق بشأنه.."أ
.

كانت أسناني مشوهة بشكل غريب.. ولمّا أصبحت أعود يوميًا من المدرسة أبكي لأمي لأن زملائي وحتي مدرسيني يسخرون من شكل أسناني، ذهبت بي لطبيب.. وعدنا بأذيال الخيبة. العملية مكلفة جدًا جدًا، وسني صغير. عزاها الطبيب -عندما أدرك احباطها بسبب ضيق ذات اليد- أني عندما أكبر وأقوم بتبديل أسناني، سيكون الموضوع أفضل 
وأوفر لتصليح شكل فكّي

سمعت كثيرًا من خُطب "أقبلي نفسك" .. "حبي نفسك زي ما أنتي" ، "عيوبك سر جمالك" وكل هذا الهراء والخطابات البراقة،
كلها كالبيضة الفاسدة.. شديدة اللمعان والصلابة من الخارج، نتنة وبلا فائدة تسمن أو تغني من الداخل. كرهتها من كثرة ما قيلت لي، وأصبح الجميع يرسلها لي عندما تصادفهم في تسجيلات أثناء تصفحهم الانترنت!

هذه الصديقة التي ترسل لي الفديو الخاص بعارضة ازياء مصابة بمرض البهاق الذي رسم بقع بيضاء علي جسدها الأسمر.. هي هي نفس الصديقة التي أنهارت قبل
خطبتها بيومين عندما ظهر حب شباب علي وجهها، جزعت وخجلت أن تكون عروس ببضع حبات كرأس الدبوس.. ستغطيهم أطنان مساحيق التجميل علي أي حال.
كل صور خطبتها لاتظهر فيها أي حبوب، فقط بشرة معدنية لامعة.. بينما عيناها
متفختان من جراء البكاء ليومين متصلين.. ولم تفلح أدوات التجميل في
تهدئة الانتفاخ.

أما أنا.. فلا انتظر تعاطفًا من أحد، لكنّ التشجيع يجرحني ويستفزني أكثر!..
كبرت أخجل أن اضحك.. أبتسم فأضع يدي علي فمي بحركة لاأرادية،
حتي أن كل صوري -ولا حيلة بان أضع يدي علي فمي في الصور الرسمية- بابتسامة صفراء مزمومة الشفتين.

لم يحبني أحد.. ربما لأني لا أحب نفسي. أخجل أن اتحدث أمام غرباء أو في مجموعة. أعرف أن شعري البني الناعم جميل.. وأن عيناي "محلية" كما كانت تقولي لي
 جدتي.
 لكن قطرة من الحبر تفسد كوب من الحليب، وأسناني جعلتني أشعر طول الوقت
أني قبيحة. خاصة وأن أول مايلفت انتباه الغرباء -من الباعة مثلًا- أول ما أبدأ
بالكلام.. هو أسناني، تملحق عيونهم فيها طول مدة كلامي، المحترمون يحاولون
تصنع عدم الأكتراث، والأغلبية يبتسمون ابتسامات ساخرة صدئة.

أما وقد اصبحت الكمامة الزي الرسمي الموحد حول العالم.. فما أسعدني!!.. لأول مرة اشعر أني ولدت من جديد.. وأخذت فرصة جديدة وسط البنات.. فرصة لم تخطر في
أسعد أحلامي، فغاية رجائي كانت أن أقوم بعمليات كثيرة.. ستكلفني ثروة طائلة ليست عندي، وآلامًا مبرحة. بينما الحل جاء بين يوم وليلة!.. كمامة بحجم كف اليد وبقيمة زهيدة.

أصبحت أضحك.. اضحك بشدة من قلبي، فتُصدّق الخطوط الدقيقة حول عيني علي
تلقائية ابتسامتي. شعري البني الطويل يطير بحرية، وعيني من فوق خط الكمامة
الآمن ترسل حبًا للجميع.. يمكنني الآن أن أتخيل نفسي أميرة، عارضة أزياء، راقصة باليه،.. أي نموذج تضع فيه الفتيات أنفسهن في أحلام اليقظة، عندما يردن أن يشعرن بجمالهن وأنوثتهن. وأنا دومًا كنت الفتاة الخجلة حتي من أن تحلم.. لا أميرة أو جميلة بلا ابتسامة.. ولا ابتسامة بلا أسنان غير التي للساحرات العجوزات.

أصبح البشر في كل مكان في العالم تتنوع أزيائهم تبعًا لثقافتهم.. يختلف حتي مفهوم العورة التي يجب تغطيها من أجسادهم.. أما قناع الوجه، فالكل منتفق عليه لأن الفيرس قد غزا الكوكب كله.. سأكون فراشة محلقة حول العالم.. الكل سيقبلني، وسأرحب بالكل بابتسامة عيني. قد اصبحت أخيرًأ "طبيعية" ومقبولة.
فهل أكذب وأقول أني أتمني أن تنتهي العزلة الاجتماعية، فيخلع الجيمع الأقنعة، وأعود أنا لعزلتي؟ أن ينتهي كابوس الفيرس العالمي، لأعود لكابوسي الخاص؟


الأحد، 31 مايو 2020

العالم ينتهي بخلفية صوت فيروز




     أصعب الأيام في طفولتنا هي التي كنا نكتشف فيها صباحًا أن بطننا تؤلمنا
فعلًا!.. وأن الدور الذي كنا نحاول تمثيله أحيانًا لنهرب من امتحان، أو مواجهة
صديق قوي مُتوَعِد نخافه، هو في الواقع صعب وبه الكثير من التقلصات التي لم نتقن افتعالها.

     كنا نسمع برامج الأطفال والكارتون لأول مرة.. وبرنامج أبلة فضيلة كاملًا.. لمن يذيعون هذه البرامج في هذا التوقيت؟ وكل الأطفال مصلوبة في المدارس -مَن لايذهبون إلي المدارس، في الغالب ليس لديهم تلفاز أيضًا- بينما من يشاهدونها في منازلهم لديهم خطب جلل سيكتب غدًا في جواب وليّ الأمر لتبرير الغياب.

     تلك الحالة المركبة من ألام تُعذّب أمعاء صغيرة، ومرارة الدواء في الحلق، مع قصة شيقة بصوت جدة حنوّن، وكارتون جاذب لعيون زائعة من الدموع والحرارة المرتفعة، الحالة التي يظن معها الطفل أنه بلغ ذروة الألم والمعاناة، مع أبهار المفاجأة والاستمتاع بفن موجه لوجدانه.. هي حالة نهاية العالم التي أعيشها الآن.

     منذ أن ذاعت أخبار الجائحة والفيرس، والجماعات حولي تقفز بين التجاهل والذعر والفزع والسخرية السوداء واللامبالاة، فسلام التسليم. أنا أيضًا كنت ومازلت أتحرك بين هذه المربعات الشعورية، كمَنْ في لعبة الحجلة.. الآن أنا هنا.. بعد دقائق أنا في قفزة واحدة هناك.

     اليوم الجو ربيعي جميل!.. صوت فيروز احتل المساحة الأكبر من برنامج الراديو
"ضاق خلقي ياصبي .. من ها الجو العصبي
 تغنيها في أذن واحدة.. وأذني الأخرة تلتقط أصوات الشارع المتوترة.. الأغلب يسير بكمامات.. عيون حذرة متلفتة.. محلات تضع التحذيرات، وتغلق الباب علي عدد من الزبائن لمنع التكدس. أطفال مقنعون، واصحاب ملوحون من بعيد حيث لااقتراب ولا تلامس


هل هذا عالمي؟ هل هذه مدينتي، وهذا زمني؟ هل ينتهي العالم الآن؟... 

ألتفحص العيون المارقة من حولي.. تقول فيروز
يخرب بيت عيونك ياعالية شو حلوين..
لماذا عندما كنا نصاب بنوبات المغص قديًما لم يحدثنا أحد عن الموت؟ لماذا لم تحكي لنا أبلة فضيلة عنه؟ ولماذا لايشرح الكارتون لماذا يجب أن نموت لنعرف مبكرًا كيف نعيش.


كانوا ينكروا الموت ويرسلونه (بعد الشر) مع أن الشر حاضر دايمًا والموت كذلك.. متلازما
ن بلا ترتيب. اليوم الموت حاضر بقوة.. يأتي ذكره يوميًا كثيرًا..
ومازال أنكاره قائما. تغني فيروز
أنا لحبيبي وحبيبي إلي
أجل يافيروز نحن للموت والموت لنا، قبل الشر وبعده وأثناءه.. نتألم.. نخسر.. نفتقد.. نخاف.. نشعر بالسكينة.. ننظر للسماء علنا نري الله أو أحد ملائكته فنقول له
يالله نحن غلابة وأنت الرحيم
الملائكة تسمع لصوت فيروز أيضًا مع البشر.. لاتنظر للموت كمان ننظر إليه، ولا تنكره كمان ننكره. تحملنا ونصعد بهدوء للسماء.. هدوء يليق بنغمات فيروز، لاسرعة ما انتجه البشر من إيقاعات موترة.. غنوها وعاشوها وجعلوا رتم حياتهم.


أسير وسط متحضرون، وأنا منهم. من لن يمت بالفيرس مات بغيره. لاأنكر الخوف والقلق، ولا أنكر السكينة والاستمتاع بالجو وصوت فيروز. أسير وأنظر إلي السماء.. حسنًا نهاية العالم ليست بالصخب الهوليدي.. 
لم يستخدم أحد أبدًا صوت فيروز كخلفية.. لكن لابأس بها يالله
ياشمس المساكين.. أنا زهرة من زهورك.. باركني.. ساعدني .. بالدمع بتزرعني بالفرح بتحصدني.

الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

لست من حريات الجنة ياحبيبي




حبيبي ..
أذهب للشهادة أو الانتحار.. لافرق عندي أيٍ من اللقبين سيلصق بك من المجتمع أو من الله، فحبنا ليس أبدًا، وأنا لن أكون من حريات جنتك -ولا أي جنة- ياحبيبي.
هل تعرف لماذا سميت الحريات كذلك؟ لأن بياض أعينهن شديد البياض وسوادهن كذلك، وجفونهن رقيقة. ربما هذا الكود الجمالي يليق بشرقيتنا، وجغرافية مهبط الأديان، وربما لايكون جمالهن مفهومًا عند الأوروبيين أو اللاتين ذوي العيون الملونة القططية الساحرة. لكنه لايليق بي كذلك.. لا لأن عيناي ملونتان، أو قوقازيتي ليست نقية، بل لأن عيوني صارت ذابلة.. سوادها كالقماش الكالح.. وبياضها مهشم برعد دموي.. خفوني منتفخة كأرغفة مقددة، بكائي الذي لاينقطع صيرني إمرأة بالية.
ربما سبب بكائي ليل نهار، هو نفس سبب احباطك الذي سيدفعك لانهاء حياتك بما تظنه عمل بطولي، احباطك الغاضب المتطرف، هو هو احباطي المستسلم المتألم. أبكي وأسكن بنحيب مكتوم .. تغضب وتهرب لشجاعة متهورة.
جنتك الموعودة أكل ونساء، وجنتي الموعودة أريكة أمامها علبة محارم ورقية لاتنفذ، تكفي لأمسح عيوني وأنفي للأبد.
هل تتوقع أن الحزن سينتهي وسنتنعم إلي الأبد؟؟ وهل ستنفقد ذاكرتنا كلها؟؟ الذاكرة هي نحن.. فإن فقدناها أصبحنا عدم. والحب هو نحن إن بدلناه صرنا آخرين.
ذكري المذلة والفراق والهجر والحرمان.. والبيوت المرمدة.. والجثث الطافية.. والطفلات المغتصبات.. والأطفال الساقطون جوعًا .. هل ستمحي تمامًا؟ الحب المكسور عشرات المرات من حبيب لحبيب.. كل حبيب في محطة نجاة زائفة.. من منهم سيكون حبيب الجنة الأبدية بعد حياة لم تعرف الاستقرار؟؟ أنت؟؟ هل يجب أن أنهي حياتي معك لنتقابل علي الجانب الأخر لبوابة الموت؟
هل سننسي كل آلام عمرنا؟؟ كيف سنجيب الملائكة إذن علي سؤالهم الفضولي "لماذا دخلتم الجنة؟"، لايمكن أن ننكر العذاب حتي ونحن في جنة النعيم.. الوجع سيعلق بقلوبنا للأبد..
والدموع.. صارت أنا. قلبي صار حزينًا كتعريف أول وأخير لحالته. يسقط في بئر حزن بلا قرار. كلما ظننت أنه استفز كل اعصابه في وجع حاضر.. اتي المستقبل بوجع أثقل وأثقل يسحبه لأسفل ..
حبيبي.. لست من حورياتك ولن أكون.. وأذهب وأحبب أمرأة أخري وأخري.. ومُت أية ميتة ترضاها، ورافق العشرات في الجنة. لن أغيْر أو أجفل.. فأنت لست ملكي.. ولا أنا حتي ملك نفسي.. اليوم – تحت وطأة احتياج عميق- أحبك، وغدًا قد أحب سجاني. اليوم أنا عذارءك.. وغدا قد أكون -عنوة- أم عدوك وقاتلك.
حبيبي.. أكرهني أو إنساني أيهما أفضل لك.. أما أنا سأظل أبكي وأبكي، حتي لا أصلح أن أكون حرية لأيٍ من الرجال الذين أحببتهم، وحتي إذا تقابلتم في الجنة لااتسبب في قتال ذكوري في دار السلام.
 

الثلاثاء، 8 يناير 2019

الرجل الذي ظننته أنت يالله




لم يكن في خطتي التوقف في استراحة علي الطريق، كنت أريد الوصول في أقرب      فرصة. ربما رغبتي في بلوغ الأسكندرية مبكرًا قدر الإمكان، هي صدي لجوعي النَهِم للـ"وصول" .. بلوغ مستقر لاأعرفه بالظبط. أقود بسرع أعلي من المقررة رغم أنه مازال هناك أكثر من ثلاث ساعات علي موعد اجتماع العمل. أنهار في بكاء مفاجئ فأضطر 
للتوقف في أقرب استراحة.
أركن السيارة وأرتدي نظارتي الشمسية وأخرج لأجلس في أول منضة في المنطقة المكشوفة. أكره سذاجة نمطية فكرة أن كل فتاة بلاحلقات في أصابعها تبكي في مكان عام، لابد أنها تعاني من مشكلة عاطفية. فكرة غبية ومضحكة ومستفزة .. أود لو أخبر الجميع حولي أنه لم يقل لي "خلينا أخوات" أو "أنتي تستاهلي حد أحسن مني" .. بل الله مَن قال لي "أنتي لاتستحقي أي شيء حسن علي الإطلاق"، حسنًا يالله .. أنا أعترف.. أنا كذلك، فلينتهي حوارنا الآن وأبدًا دون أي صراعات إغريقية. لكني أفضل بدل من أي إجابة، أن احتفظ بنظارتي السوداء وامنع التساؤل من الأصل.
تجري اصابعي لهاتفي المحمول بحركة لا إرادية .. أفتح الأنترنت، تنهال رنات الرسائل وتزاحم بعضها البعض. أزيحها كلها بأصبع واحد لسلة القمامة الرقمية.. كلها قمامة أنا غارقة فيها.. قمامة فتشت فيها مِرارًا -مثل المشردين البائسين- علي بقايا مايسد الرمق فلم أجد ماشيبع أبدًا. رسائل جافة عفنة حتي مايبدو عاطفيًا منها، فلابد أن يخفي وراءه طلب أو مصلحة ما.
أفتح محرك البحث وأكتب بأيد مرتعشة وأنجليزية صحيحة "الانتحار أثناء القيادة"، فتأتي نتائج البحث عن حوادث مشهورة لسائقين منتحرين أزهقوا أرواحًا معهم، وضرورة الفحص ضد الأمراض العقلية لسائقي التاكسي بأمريكا. ألقي الهاتف في غيظ. يأغبياء لست مريضة عقليًا، وأنا وحدي في سيارتي الخاصة التي اشتريتها بمالي. لم ولن أؤذي أحدًا، بل اريد أن أمنع الأذي الأدبي عن من انتسب له، سواء كان شعور بالذنب أو الخزي بأن صديقتهم -أو قريبتهم- منتحرة. أريدها أن تبدو حادثة عادية .. قضاء وقدر، فقدري الحالي أبشع كثيرًا من حادث سيارة أرقد بعده في سلام. كما إني لاأريد أن أعيش بعاهات تكلف الدولة أمولًا في علاجي من تأميني واسع التغطية، وسريرًا قد يحتاجه محب للحياة .. أفهكذا أُتهم بالمرض العقلي؟؟ فكيف إذن يفكر العاقلون العمليون؟؟
يعتصرني الصداع فأنهض لأحضر بعض القهوة. أقف في طابور طويل .. أغمض عيني وأشعر بالألم يطوّق رأسي .. أصل أخيرًا للـ"بار مان" الواقف أمام مكينة التحضير السريع.
-كنت عايزة آآآآ ...
-ماسكة راسك ليه؟
صمتُ! .. وأنتبهت أني أضغط بأصابعي علي جانبي صدغي بقوة. رد فعلي التلقائي علي مثل تلك الأسئلة طوال الوقت "وأنت مالك!" لاأعتبرها "قلة ذوق"، بل الرد اللائق بالتعدي علي المساحات الخاصة .. لكن ابتسامته -من سط ضباب بقايا دموعي، وضغط الألم في رأسي- كانت أبوية وحنونة جدًا .. لم استطع مقابلها إلا أن أخفض يدي وابتسم:
-مصدعة شوية.
-سلامتك ..
لاأعرف كيف يكون الرد علي اللطف في العادي .. تذكرت "الله يسلمك" بعدما استأنفت القيادة، واسترجعت المشهد أكثر من خمس مرات في رأسي. استفقت علي كحة مصتنعة من الواقف خلفي في الطابور يتعجلني لأطلب، أما هو فيبدو هادئًا ومتمهلًا جدًا كانه لايري غيري في المكان.
-هاتشربي إيه؟؟
- آآ .. قهوة سادة دوبل.
يضضم حاجبيه في غضب خفيف بلاتصنع ويتسأل ..
-أنتِ فطرتي؟؟
مرة أخري كنت سأرد بحسم، لكني وجدتني أمامه كطفلة أمام أبٍ حنون وحازم لايصح معه الكذب..
-لأ ..
-مصدعة يعني ضغطك عالي، والقهوة بترفع الضغط أكتر، ومش بتتاخد علي بطن فاضية. روحي جيبي سندوتشات من الشباك اللي هناك وتعالي هاديكي قهوة، بس بعد الأكل.
في أي وقت غير هذا، كنت في ظرف دقائق تسببت في رفد هذا المتطفل -في عقيدتي- من عمله، بعد أن أتشفي في إهانته من مديره، عقابًا له علي تطاوله. لكني وجدتني انسحب من الطابور، وأبحث عن منفذ الطعام وأذهب إليه!
طلبت رغيفين واحد بالجبن والأخر بالمربي، استلمتهم وعدت سريعًا لطابور المشروبات. ليس لأني اتعجل الحصول علي قهوة، بل لأني أريد أن أُريه كم أنا "شاطرة".
أقف في الطابور رافعة الطبق الخفيف والخبز يبرز منه وأنا أنظر نحوه، فيبادلني نظرات الرضا وهو يقضي لباقي الزبائن طلباتهم. أصل إليه فأشعر أنه ينظر في عيني ويراها! .. لايسألني عن طلبي، بل بحركة أوتوماتيكية يعد القهوة ويمد يده لي بها :
-أنا حطيت حبة سكر صغيرين مش هايفرقوا في الطعم ولا المزاج بس هافرقوا في الصداع ..
يمد يده بالقهوة فأمد يدي، فريجع بيده للخلف :
-بس بعد الأكل ؟
أرد :
-حاضر
تحت وطأة نظرته النافذة واضطرابي ترتعش يدي أول ماتمسك بالكوب، فيمسك بيده فوق يدي ..
-علي مهلك ..
أعود لمنضدتي في المنطقة المفتوحة .. تنسحب إليها الشمس أول مااجلس كنجمة يُسلط عليها الضوء، أشعر بقشعريرة في جسدي كله، وبدفء في أعماقي يؤيده ضوء الشمس علي جلدي. أتناول الطعام بنهم واستمتاع لم اختبره منذ شهور -وربما سنوات- وارتشف القهوة بعينين مغمضتنين وروح طفلة تمرح في حديقة مُتخَيلة.
يفارقني الصداع فأنهض لاستكمل رحلتي. احاول أن أودع رجل القهوة بعيني فلا أراه من الزحام أمامه. أركب السيارة.. أقبض يدي اليمني كأني أمسك بكوب وهمي، واضع فوقها يدي اليسري لأستشعر موضع يده علي يدي بأشعر بحنان قد كسي جلدي ينتقل من ظهر يدي اليمني، لباطن يدي اليسري ثم لقلبي فيضخ دفئًا لذيذًا لكل خلايايّ.
أضع حزام الأمان وأنطلق وأنا أفكر فيما فعله هذا الرجل!! .. كيف انتبه لي بكل هذا الاهتمام، وسط كل هذا الزحام! كيف ميّز معاناتي وألتفت لها، ولماذا فعل؟ كيف ولماذا كان اهتمامه حقيقيًا جدًا وغير متكلف علي الإطلاق! .. كيف بدل حالتي وحالة العالم من حولي ببعض كلمات ونظرة ولمسة! طبيبي النفسي لم يفعل هذا -ولا جزء منه- في شهور من العلاج.. فكيف فعلها هذا في دقائق! هل يملك قدرات سحرية خارقة! هل كان هو الله!! ..
أدير زر الراديو لأشوش علي أفكاري.. فتشدو أم كلثوم "ياللي حبك خلي كل الدنيا حب .. ياللي قربك صحّي عمر وصحّي قلب" .. أجل .. أجل كان هذا أنت يالله.


الأربعاء، 31 أكتوبر 2018

أستاذ أبراهيم رزق في ذمة الله !


مش عارفة أنا بكتب ليه؟ ولا بكتب إيه؟ بس مش  ! قادرة أنام من الخبر !!
  ..أنا جوايا أفكار وتشويش كبير
ربنا يرحمك ياأستاذ أبراهيم رحمة واسعة
ويصبر ولادك ومراتك
الموضوع صعب قوي!

***
طول الوقت كنت بحس إني ماينطبقش علي الكلام بتاع "قولوا للي بتحبوهم أنكم بتحبوهم قبل فوات الأوان .." والكلام دا، لأني كنت بتعبر نفسي بعبر عن مشاعري لكل الناس، حتي اللي م بيعبرولي.
مؤخرًا كنت بفكر كمان أقل اجتمعياتي، و"دلقتي" وأحد اصدقائي. بس أول ماسمعت الخبر وصعقت لما أتأكدت منه حسيت قد إيه أنا وحشة وندلة .. وحشة مع حد مافوتش عيد من غير مايكملني مكالمة مخصوص، ويحكي كتير ويعيد .. وأنا اخر عيدين ماكلمتوش ولا حتي عيدت بأي طريقة، كتير كان بيكتب أنه تعبان أو متضايق وأنا مش بسأل، مع انه دايما كان بيهتم وسأل ويعلق، وعارفة أنه مش أنا لوحدي اللي كان معايا كدة. هو كان شهم وجدع وصاحب واجب وزيادة مع الكل.
***
بفكر في الموت !!! ازاي كدة !!!
أنا خفت بجد !! دا مافيش فعلا طرفة عين
***
أنا عارفة أن ناس كتير هاترثيه كما يستحق، بس فعلا وردة لحي أحسن من بوكيه علي قبر.

هادعيله كتير .. دي الحاجة اللي بفكر أعملها بس !

الصورة الجماعية من يوم الاحتفال مع فاتيما بعودة يوسف .. وكالعادة هو اللي كان متزعم اليوم، وفضل متابعني بالتليفون لحد ما وصلت من المنيا ودخلت الاوبرا، وبالراجع، كان مهتم بي جدًا رغم الناس الكتير ، ورغم انه كان مهتم بكذا حاجة .. بس حسسني انه والدي أو أخويا الكبير المهتم بي.

***

أنا أول مرة اكتب في المدونة علي طول مش برة وأنقل .. بس حاسة أن المكان دا هو مكان التعارف
واللي ياما شجعني فيه ومن أنا صغيرة ..

***

أنا حزينة .. حزينة 
ربنا يرحمك ياأستاذ أبراهيم


الثلاثاء، 1 مايو 2018

حنان البلاطات السيراميكية




     يبقي الحمام هو الملاذ الآمن في كل مكان في العالم! .. ربما بحكم كونه المكان 
الوحيد الذي لايطلب تبريرًا أو تنويهًا لكونك تريد أن تكون وحيد، وتغلق الباب فلاتلصص.
    
لو لم أكن قد هربت إلي الحمام، لكنت الآن أعاني أنهيارًا حقيقًا. الكثير من المعلومات .. الكثير من المجادلات، الكثير من الأصوات والشرائح المضيئة علي الشاشة البيضاء ولوحات شرح  ومداخلات .. والكثير من التقلصات في رحمي، ودفقات الدم الساخن بين فخذي، ودبابيس ساخنة تصعد من رحمي لصدري لذراعي ورأسي فتصلبني علي 
صليب وهمي.
   
  أهرع في وقت "البريك" للحمام .. مع ابتسامة صفراء لكل من يريد أن يستوقفني، ليحدثني جانبيًا ليربحني لوجهة نظره .. "التويلت بليز" ..

   أجلس بكامل ملابسي الرسمية علي المرحاض .. أهدئ من روعي .. أسند رأسي علي الحائط المجاور. يلامس خدي وصدغي الجانبي البلاطات السيراميكية الباردة فيرتعش جسدي بقشعريرة وتسيل دموعي. جرعة حنان غريبة تدفقت إليّ من الحائط إلي جسدي!
   
رحمي يُشعل جسدي بحريق الهرمونات، فيصعد الدخان الأسود إلي رأسي فيعمي عينيّ، ويصم أذناي .. أنظر للزملاء واللوحات والرسومات فلا أري أو أسمع شيئًا .. تأتي كلمة "بريك" فتصتادني كسمكة من البحر الأسود الذي أنا غارقة فيه.
  
  الحائط البارد يحنو علي روحي وجسدي .. يرسل أمطارًا باردة ترطب حرارتي. أنزع حذائي ذو الكعب الدبوسي وأترك قدمي بالجورب الخفيف تنام في استرخاء علي البلاطات الباردة هي الأخري. أضغط علي زر جهاز التعطير فتخرج منه رائحة تُرخي جسدي أكثر فاكثر.
  
   لم أكن احتاج إلا إلي ذلك الحضن البارد. لماذا يصفون في الروايات العاطفية الأحضان وقبلات الحب بالــ"قبلات الساخنة الملتهبة" ؟؟ هل كل الروايات تُكتَبُ في الشتاء؟ حتي لو ..، أجساد النساء ساخنة معظم الوقت تحت تأثير اضطرابتهن الهرمونية، وتثقل دهونهن الكثيرة التي يحرقنها طوال الوقت علي خلاف الثقل العضلي الغالب للرجال.
  
   كثيرًا ماتنيت حضنًا باردًا من زوجي! .. بل إني عندما يفيض بي الكيل واُحبط تمامًا من ضغط العمل -كتلك اللحظة- أغلق عليّ باب حمام المنزل .. أملأ حوض الاستحمام بالماء البارد وأنام فيه .. أحلم أحلامًا بهيجة أكون فيها طفلة تلهو بجانب نهر وتضحك بصوت عال وتجري وترش المياه علي حيوانات سعيدة تلعب حولها. استقيظ وأنا مستعدة لمواجهة الحياة مرة أخري حتي يحترق جسدي وروحي فاُعِيد الكرّة ..
   
جسد زوجي دائمًا بارد .. كم تمنيت أن أسند رأسي عليه وأنا أجلس بجانبه ونشاهد فلمًا رومنسيًا، لكنه دائمًا مايقول أن الأفلام الرومانسية تليق بالمراهقات لامديرة عبقرية مثلي، فأخجل بأن أخبره أني أحبها جدًا، واُشاهدها وحدي علي جهاز حاسوبي المحمول اثناء سفري .. في حمامات الفنادق الفاخرة.
   
  يري أني سيدة ناجحة وعملية ويتغزل في عقلي، كل هداياه لي حقائب جلدية أنيقة باهظة الثمن، ساعات يد، حافظات أوراق. هل كان يجب أن أحب وأتزوج شخصًا لايعمل في نفس الشركة التي أعمل بها، حتي يراني "فتاة" و "حبيبة" لامديرة ناجحة حتي في المنزل.
   
  قلت له مرة إني أُحب فلم "مراتي مدير عام" لأُلمح له إني بداخلي شخصية تشبه شادية الرومانسية "الدلوعة" خارج العمل، فقال لي أنه كذلك لأنه كصلاح ذو الفقار لايخجل أن تكون زوجته مديرته، ويتمني لي المزيد من الترقي والنجاح!
   
  أمد يدي للصنبور وأفتحه أترك صوت المياه يربت علي روحي .. صوت المياة المتدفقة أروع موسيقي مهدئة في العالم، ربما هذا كانت الشلالات والبحار مصدر سكينة. رزاز الماء يبرد وجهي. أمد يدي وأملأ كفي من الماء البارد، ثم امسح علي صدغي واهبط إلي شفتيّ ورقبتي. سيكلفني هذا وقتًا إضافيًا لتعديل مساحيق تجميلي، لكن لايهم .. دموعي الساخنة ازاحتها قبلًا.
  
  كم أننا قويات! .. أفكر كل يوم كم سيدة تسير في الشارع وهي تنزف وتعاني من التقلصات! .. السُدس علي أقل تقدير. وهل يقدر أحد ذلك؟ لاأحد .. ولاحتي باقي السيدات والفتيات أنفسهن. كم واحدة تعاني مع الاحتباس الحراري احتباسها الحراري الخاص؟ كم واحدة لاتحظي بوقت خاص في عملها أو منزلها، تبكي أو ترفه عن نفسها؟ في لحظات مثل هذه أمتن لعدم وجود أطفال في حياتي، فكم أم تقضي ساعة أو ساعتين كل اسبوع نائمة في حوض استحمام بارد معطر بلا ازعاج؟
   
  طُرِقَ الباب ودار المقبض أكثر من مرة أثناء جلوسي هكذا لوقت لاأعرف كم هو .. لاأكترث .. حطموا الباب إذا أردتم أنا أحظي بجرعة الشفقة التي استحقها.
    
أنظر في الساعة فادرك أن وقت "البريك" أوشك علي الانتهاء .. أُقبّل الحائط بشفتي فتقبلني برودته. أشكر الله علي هذا الحنان والاحتواء الذي أودعه في هذا الحيز الضيق والبلاطات الباردة .. كنت أتمني لو أنها قد أُودعت في إنسان، إنسان لايراني إدارية مميزة فقط، بل سيدة تمر بكل ماتمر به السيدات من ضعف وانهزام وانكسار .. حتي لو لأسباب كميائية تتعلق بطبيعتها البيلوجية، وحتي لو كانت ناجحة وقوية.

    أرتدي حذائي .. أنهض من علي المرحاض .. أقوم بغيير فوطتي الصحية الممتصة لكثير من دمائي النازفة، أغسل يدي وأشرب من الصنبور المفتوح بكفي، أرش المياة علي وجهي المنحني تحت الصنبور وابتسم .. اعدل مساحيق وجهي. اضع قطعة نعناع في فمي قبل أن أفتح الباب وأغادر. ألقي نظرة أخيرة علي بيت الوِحدة .. وأمتن أن الحنان يصل إليّ، حتي لو من خلال حوائط باردة بلا نوافذ.